الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من جَهَّز جيش العُسْرة فله الجنة

من جَهَّز جيش العُسْرة فله الجنة

من جَهَّز جيش العُسْرة فله الجنة

في شهر رجب من سنة تِسع قبل حَجَّة الوداع كانت غزوة تبوك، التي سميت بذلك نسبة إلى عين ماء يقال لها تبوك، وهو مكان معروف بين المدينة ودمشق، وللغزوة اسم آخر معروفة ومشهورة به وهو: غزوة العُسْرة، وذلك لوقوعها في زمان عُسْرَةٍ من الناس، وشدةٍ في الحر، وبُعْدٍ في المكان، وقلةٍ في المال والدواب، وقد ورد هذا الاسم ـ العسرة ـ في القرآن الكريم حينما تحدث عن هذه الغزوة في سورة التوبة، قال الله تعالى: {لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(التوبة: 117)، وقد روى البخاري بسنده إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله الحُملان لهم إذ هم معه في جيش العُسْرة، وهي غزوة تبوك)، وعنون البخاري لهذه الغزوة بقوله: (باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة). قال ابن حجر في "فتح الباري" : "وهي آخِرُ غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أهمِّها، وكانت مليئة بالأحداث، فيها أخبار الموسرين الذين أنفقوا، والفقراء الذين عجزوا، وفيها أنباء المنافقين الذين فُضِحوا، وحكاية الثلاثة الذين خلفوا، فضلاً عن أخبار المسير والحصار والمشقة التي كانت فيها، والأحداث التي صاحبتها".

الحث على تجهيز الجيش:

لما كانت هذه الغزوة في زمان عُسْرَةٍ من الناس، وجدْبٍ في البلاد، حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على البذل والإنفاق فيها فقال: (من جهز جيش العسرة فله الجنة، فجهزه عثمان بن عفان رضي الله عنه) رواه البخاري. وقد استجاب الصحابة رضوان الله عليهم لنداء النبي صلى الله عليه وسلم، وتسابقوا كعادتهم في البذل، وضربوا أروع الأمثلة في العطاء، فجاء أبو بكر رضي الله عنه بماله كله وكان أربعة آلاف درهم، وجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله، وجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بنصف ماله، وجاءالعباس رضي الله عنه بمالٍ كثير .. وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه جاء بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وبألف دينار استجابة لنداء النبي صلى الله عليه وسلم: (من جهز جيش العسرة فله الجنة)، حتى أكْبر النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل عثمان رضي الله عنه فقال: (ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم) رواه الترمذي وصححه الألباني. قال ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري: "باب مناقب عثمان بن عفان أبي عمرو القرشي رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يحفر بئر رومة فله الجنة) فحفرها عثمان، وقال: (من جهز جيش العسرة فله الجنة) فجهزه عثمان".

لمَّا سارع الصحابة رضوان الله عليهم بصدقاتهم ونفقاتهم لتجهيز جيش العسرة، ورأى فقراء المسلمين ما بذل إخوانهم، اشتاقوا ـ رغم فقرهم ـ إلى أن يبذلوا وينفقوا، ولم يتعللوا ويعتذروا بفقرهم، بل شاركوا الأغنياء بما يستطيعون، حتى أن أبا عقيل رضي الله عنه جاء بنصف صاع من تمر، مشاركاً به في هذه الغزوة، وملبياً لنداء النبي صلى الله عليه وسلم في تجهيز جيش العسرة، قال ابن حجر: "عن أبي مسعود قال: لما أُمِرْنا بالصدقة (في تبوك) كنا نتحامل (يحمل بعضنا لبعض)، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه".. حتى الذي بلغ منهم الفقر غايته ولا يملك شيئاً يتصدق به ـ وهو عُلبة بن زيد بن حارثة رضي الله عنه ـ يقول: (اللهم إنه ليس عندي ما أتصدق به، اللهم إني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها من مال أو جسد أو عِرْض، ثم أصبح مع الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين المتصدق بعرضه البارحة؟ فقام عُلبة رضي الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبشر فوالذي نفسي بيده لقد كُتبت في الزكاة المتقبلة) رواه البيهقي في شعب الإيمان وصححه الألباني، وقال أبو نعيم في "معرفة الصحابة" في حديثه عن علبة بن زيد رضي الله عنه: "عُلبة بن زَيْدٍ الأنصاريّ الحارثيّ أبو مُحمد، لَهُ صُحْبَة، الْمُتَصَدِّقُ بِعِرْضه على الناس".

شارك وسارع الصحابة رضوان الله عليهم في تجهيز جيش العسرة، حتى النساء جاءت بما قدرن عليه من صدقات وحليّ، ووضعنه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، طمعاً في موعوده بقوله: (من جهز جيش العسرة فله الجنة)، وكل هذا استجابة لنداء ربهم في قوله سبحانه: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}(التوبة:41)، قال السعدي: "أي: ابذلوا جهدكم في ذلك، واستفرغوا وسعكم في المال والنفس، وفي هذا دليل على أنه - كما يجب الجهاد في النفس - يجب الجهاد في المال، حيث اقتضت الحاجة ودعت لذلك".
ومع ما فعله الصحابة ـ الأغنياء منهم والفقراء ـ من الصور العظيمة في البذل والعطاء في غزوة تبوك (العسرة)، إلا أن المنافقين كعادتهم مع المؤمنين ـ من الاستهزاء والتثبيط ـ، أخذوا يسخرون ويلمزون الصحابة في صدقاتهم ونفقاتهم، ويتضاحكون ويقولون: إن الله لغني عن صاع هذا، وما يفعل صاع تمر في قتال الروم، وفي ذلك نزل قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(التوبة:79)، قال ابن كثير: "وهذا أيضا من مخازي المنافقين، فكانوا ـ قبَّحَهُم الله ـ لا يَدَعُون شيئاً من أمور الإسلام والمسلمين يرون لهم مقالاً إلا قالوا وطعنوا بغياً وعدوانا، فلما حثَّ الله ورسوله على الصدقة، بادر المسلمون إلى ذلك، وبذلوا من أموالهم كل على حسب حاله، منهم المكثر، ومنهم المقل، فيلمزون المُكْثِر منهم، بأن قصده بنفقته الرياء والسمعة، وقالوا للمقل الفقير: إن الله غني عن صدقة هذا، فأنزل الله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ} أي: يعيبون ويطعنون {الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} فيقولون: مراءون، قصدهم الفخر والرياء. {و} يلمزون {الَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ} فيخرجون ما استطاعوا ويقولون: الله غني عن صدقاتهم {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ}، فقابلهم الله على صنيعهم بأن {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .. وقولهم لصاحب الصدقة القليلة: "الله غني عن صدقة هذا" كلام مقصوده باطل، فإن الله غني عن صدقة المتصدق بالقليل والكثير، بل وغني عن أهل السماوات والأرض، ولكنه تعالى أمر العباد بما هم مفتقرون إليه، فالله - وإن كان غنياً عنهم - فهم فقراء إليه {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}(الزَّلزلة:7)".

في قصة غزوة تبوك أو العُسْرة وتفاعل الصحابة رضوان الله عليهم مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من جهز جيش العسرة فله الجنة) دلالة على حرصهم على البذل والعطاء، ومسارعتهم إلى الصدقة والإنفاق في سبيل الله، كما أن في هذه الغزوة المباركة برهان على أن الإيمان بالله تعالى يفوق كل قوة وزاد، فرغم قلة المال والسلاح، والطعام والشراب، وبُعْد المسافة وشدة الحر إلا أن الصحابة رضوان الله عليهم استطاعوا الوصول إلى تبوك، وحاصروا عدوهم المُقيم على أرضه والمدجج بالأسلحة، وقد انتهت هذه الغزوة بانتصار المسلمين، بلا صدام أو قتال، لأن جيش الروم تشتت وتبدد في البلاد خوفاً من مواجهة المسلمين، مما كان له الأثر الكبير في حدوث تغيرات عسكرية في المنطقة، والتمهيد لفتح الشام، وإسقاط هيبة الدولة العظمى (الروم) في ذلك الوقت.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة