الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مال الدية ملك لمن استحقه يتصرف فيه كبقية أمواله

السؤال

قمت برفع دعوى قضائية ضد دكتور قام بخطأ طبي جسيم، كان سيؤدي إلى وفاتي، وتسبب في أضرار غير قابلة للإصلاح، وأدى إلى حرماني من الإنجاب.
وقد فزت بالدعوى القضائية، وحكم عليه بالسجن لمدة سنة. ثم أراد المصالحة والتنازل عن القضية بمقابل مادي للتعويض عن الأضرار الناتجة.
فهل توجد شبهة في هذا المال، أم إن أخذه حلال؟ وإذا أخذته هل هناك مصارف معينة يصرف فيها هذا المال؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن أخطأت يد الطبيب، وجنت على شيء من أعضاء البدن أو حواسه أو منافعه؛ وجب الضمان (الدية) تعويضا للمجني عليه.

قال ابن القيم في «زاد المعاد»: طبيبٌ حاذقٌ أُذِن له، وأعطى الصَّنعةَ حقَّها، لكنَّه أخطأت يده، وتعدت إلى عضو صحيح، فأتلَفَه؛ مثل أن سبقت يد الخاتن إلى الكَمَرة؛ فهذا يضمَن؛ لأنَّها جناية خطأ، ثمَّ إن كانت الثُّلث فما زاد، فهو على عاقلته. اهـ.

وراجعي في ذلك الفتاوى: 5852، 5178، 371281.

وعوض الجناية على النفس، وعلى ما دون النفس يسمى في الشرع (الدية).

قال الحجاوي في «الإقناع»: الدية هي ‌المال ‌المؤدى ‌إلى ‌مجني عليه، أو وليه، بسبب جناية. اهـ.

وجاء في (الموسوعة الفقهية): الجناية هي كل فعل محظور يتضمن ضررا على النفس أو غيرها. والجناية قد تكون سببا لثبوت العوض على الجاني أو عاقلته ...

كذلك تجب الدية في الاعتداء على ما دون النفس، والاعتداء قد يكون بإبانة الأطراف، أو إتلاف المعاني، أو الشجاج والجروح ...

والدية ما هي إلا عوض لما تسبب به الجاني. اهـ.

وما ذكرته السائلة مما وقع عليها لا يخرج عن هذه الثلاثة: إبانة الأطراف، أو إتلاف المعاني، أو الشجاج والجروح.

ولكل واحد منها دية مقدرة في الشرع، يمكن معرفتها إجمالا مما ورد في (الموسوعة الفقهية): اتفق الفقهاء في الجملة على أن في قطع ما لا نظير له في بدن الإنسان كالأنف واللسان والذكر والحشفة والصلب إذا انقطع المني، ومسلك البول، ومسلك الغائط دية كاملة.

ومن أتلف ما في البدن منه شيئان كالعينين والأذنين، واليدين، والرجلين، والشفتين ... إذا تلفتا معا ففيهما دية كاملة، وفي إحداهما نصف الدية.

ومن أتلف ما في الإنسان منه أربعة أشياء، كأشفار العينين والأجفان ففيها الدية، وفي كل واحد منها ربع الدية.

وما فيه منه عشرة أشياء، كأصابع اليدين وأصابع الرجلين ففي جميعها الدية الكاملة، وفي كل واحد منها عشر الدية ... وفي جميع الأسنان دية كاملة، وفي كل سن خمس من الإبل.

وهذا في الجملة ... اهـ.

وجاء فيها أيضا: إذا فوت جنس منفعة على الكمال، أو أزال جمالا مقصودا في الآدمي على الكمال يجب كل الدية؛ لأن فيه إتلاف النفس من وجه، إذ النفس لا تبقى منتفعا بها من هذا الوجه، وإتلاف النفس من وجه ملحق بالإتلاف من كل وجه في الآدمي تعظيما له.

وهذا الأصل كما هو معتبر في الأعضاء مطبق كذلك في إذهاب المعاني والمنافع من الأعضاء وإن كانت باقية في الظاهر.

ومما تجب فيه الدية من المعاني: العقل والنطق، وقوة الجماع والإمناء في الذكر، والحبل في المرأة، والسمع والبصر والشم والذوق واللمس.

وهذا إذا أتلفت المعاني دون إتلاف الأعضاء المشتملة عليها. اهـ.

وبخصوص القدرة على الإنجاب.

جاء في (الموسوعة الفقهية): صرح الفقهاء بأنه تجب الدية الكاملة بالجناية على قوة الجماع ... لأن الجماع منفعة مقصودة تتعلق به مصالح جمة، فإذا فات وجب به دية كاملة. وكذلك بانقطاع الماء يفوت جنس المنفعة من التوالد والتناسل ...

وذكر الشافعية من هذا القبيل إتلاف قوة حبل المرأة فيكمل فيه ديتها؛ لانقطاع النسل. اهـ.

والمقصود أن الجناية على ما دون النفس لها تعويض مقدر في الشرع، وهو الدية.

جاء في (الموسوعة الفقهية): قام الشارع بتقدير بعض الأعواض، ولم يترك تقديرها لأحد وذلك حسما لمادة النزاع، وتقدير الشارع للعوض إما أن يكون بتحديده، أو بوضع ضابط يرجع إليه في تقدير العوض. ومن الأعواض التي حددها الشارع الدية (في القتل) ... وأيضا قدر الشارع دية الأطراف وإتلاف المعاني والشجاج والجروح. اهـ.

والجناية إذا وقعت على حواس ومنافع متعددة، أوجب ديات متعددة أيضا.

جاء في (الموسوعة الفقهية): الأصل أن الدية تتعدد بتعدد الجناية وإتلاف الأعضاء أو المعاني المختلفة إذا لم تفض إلى الموت.

فإن قطع يديه ورجليه معا ولم يمت المجني عليه تجب ديتان.

وإن جنى عليه فأذهب سمعه وبصره وعقله وجب ثلاث ديات، وهكذا. اهـ.

وإذا وجبت الدية كاملة أو أكثر من دية للسائلة، فلا نظن أن التعويض المذكور سيبلغها وإن كثر، فإن قيمة الدية تزيد على أربعة كيلو جراما من الذهب! فمقدار الدية كاملة بالعملات المعاصرة ما يساوي قيمة 4250 جرامًا من الذهب تقريبًا. وانظري الفتوى: 255943.

وعلى فرض أن التعويض المذكور يزيد على قيمة الدية، فلا حرج في أخذ الزيادة إذا كانت من غير جنس الدية المقررة شرعا. وراجعي في ذلك الفتوى: 218284.

وليس لهذا المال مصارف معينة، وإنما هو ملك للمجني عليه، يتصرف فيه كما يتصرف في سائر أمواله.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني