الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( نوادر ) الأولى في تفسير أبي السعود { أن شيخا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن ابني هذا له مال كثير ولا ينفق علي من ماله ، فجاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن هذا الشيخ قال في ولده أبياتا ما سمع بمثلها ، فأنشدها في الحال بين يديه صلى الله عليه وسلم . ويروى أن الولد جاء للنبي صلى الله عليه وسلم فاشتكى على والده بأنه أخذ ماله ، فأرسل خلفه فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد أخبره جبريل بأنه قد قال الأبيات ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إن ابنك هذا يزعم أنك أخذت ماله ، فقال له الرجل سله هل أنفقته إلا على أخواته وعماته ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم هيه دعنا من هذا ما أبيات قلتها في نفسك لم تسمعها أذناك ، فقال والله يا رسول الله لا يزال الله يرينا منك الحق لقد قلت أبياتا ما سمعتها أذناي ، فاستنشده الأبيات فقال قلت :

غذوتك مولودا وصنتك يافعا تعل بما أجني عليك وتنهل     إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت
لسقمك إلا ساهرا أتململ     كأني أنا المطروق دونك بالأذى
طرقت به دوني وعيني تهمل     تخاف الردى نفسي عليك وإنها
لتعلم أن الموت وقت مؤجل     فلما بلغت السن والغاية التي
إليها مدى ما كنت فيك أؤمل     جعلت جزائي غلظة وفظاظة
كأنك أنت المنعم المتفضل     فليتك إذ لم ترع حق أبوتي
فعلت كما الجار المجاور يفعل     فأوليتني حق الجوار ولم تكن
علي بمالي دون مالك تبخل

فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابنه حينئذ أنت ومالك لأبيك
} .

( الثانية ) : قال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه روضة المحبين ونزهة المشتاقين : قال سالم بن عبد الله : كانت عاتكة ابنة زيد تحت عبد الله بن أبي [ ص: 388 ] بكر الصديق رضي الله عنهما ، وكانت غلبته على رأيه وشغلته عن سوقه ، فأمره أبو بكر رضي الله عنه بطلاقها واحدة ففعل فوجد عليها ، فقعد لأبيه على طريقه وهو يريد الصلاة ، فلما بصر بأبي بكر بكى وأنشد يقول :

ولم أر مثلي طلق اليوم مثلها     ولا مثلها في غير جرم تطلق
لها خلق جزل وحلم ومنصب     وخلق سوي في الحياة ومصدق

فرق له أبو بكر رضي الله عنه وأمره بمراجعتها . فلما مات قالت ترثيه :

آليت لا تنفك عيني سخية     عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
فلله عينا من رأى مثله فتى     أعف وأمضى في الهياج وأصبرا
إذا شرعت فيه الأسنة خاضها     إلى الموت حتى يترك الرمح أحمرا

فلما حلت تزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأولم عليها ، فاستأذنه علي رضي الله عنه أن يدخل رأسه إلى عاتكة فيكلمها فأذن له ، فأدخل علي رضي الله عنه رأسه إليها وقال لها يا عدوة نفسها :

آليت لا تنفك عيني قريرة     عليك ولا ينفك جلدي أصفرا

فبكت ، فقال له عمر رضي الله عنه ماذا دعاك إلى هذا يا أبا الحسن كل النساء يفعلن هذا . ثم تزوجها الزبير بعد عمر ، ثم خطبها علي رضي الله عنهم بعد قتل الزبير فقالت إني لأضن بك عن القتل .

( الثالثة ) ذكر في الآداب الكبرى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إنما رد الله عقوبة سليمان عن الهدهد لبره كان بأمه انتهى . يعني لما توعده سيدنا سليمان في قوله { مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين } وذلك لما فقده لأجل الماء ، فدعا سليمان عريف الطير وهو النسر فلم يجد عنده علمه ، ثم قال لسيد الطير وهو العقاب علي به ، فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل فقصدته ، فناشدها الله وقال بحق الذي قواك وأقدرك علي ألا رحمتيني ، فتركته وقالت ثكلتك أمك إن نبي الله حلف ليعذبنك قال وما استثنى قالت بلى أو ليأتيني بسلطان مبين . فلما قرب من سليمان عليه السلام أرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعا له ، فلما دنا منه أخذ رأسه فمده إليه ، فقال يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله ، فارتعد سليمان عليه السلام وعفا عنه . قيل كان عذاب سليمان [ ص: 389 ] للطير أن ينتف ريشه ويشمسه . وقيل يطلى بالقطران ويشمس . وقيل أن يلقى للنمل يأكله . وقيل إيداعه القفص . وقيل التفريق بينه وبين إلفه . وقيل لزمته صحبة الأضداد . وقد ذكر بعضهم أن أضيق السجن معاشرة الأضداد . وقيل لزمته خدمة أقرانه .

قال عكرمة : إنما صرف سليمان عن ذبح الهدهد أنه كان بارا بوالديه ينقل الطعام إليهما فيزقهما . ذكره في حياة الحيوان . وفي الكامل وشعب الإيمان للبيهقي أن نافعا سأل ابن عباس رضي الله عنهما فقال سليمان مع ما خوله الله من الملك وأعطاه كيف عنى بالهدهد مع صغره ؟ فقال له ابن عباس إنه احتاج إلى الماء ، والهدهد كانت الأرض له كالزجاج فقال ابن الأزرق لابن عباس قف يا وقاف كيف يبصر الماء من تحت الأرض ولا يرى الفخ إذا غطي له بقدر أنملة من تراب ؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما إذا نزل القضاء عمي البصر . وأنشدوا في ذلك لأبي عمر الزاهد رحمه الله تعالى :


إذا أراد الله أمرا بامرئ     وكان ذا رأي وعقل وبصر
وحيلة يفعلها في دفع ما     يأتي به محتوم أسباب القدر
غطى عليه سمعه وعقله     وسل منه ذهنه سل الشعر
حتى إذا أنفذ فيه حكمه     رد عليه عقله ليعتبر

والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية